الثلاثاء، 17 سبتمبر 2019

الاطفال يشيبون عند الفجر..للقاص/ محمدعبدالولي

الأطفال يشيبون عند الفجر   للروائي محمد عبدالولي

الظلام أسود أسود أسود والليل بارد بارد بارد والأشباح تملأ المكان، خوفاً وطلقات بعيدة تردد الجبال والوديان صداها، الأسلحة تجمدت فوقها الأيدي، الدم الحار التحم بالقصب البارد، حبات الرصاص كانت دافئة مثل القلوب القليلة التي تخفق في الربوة.. الليل طويل، طويل، طويل، والدقائق دهور والساعات عصور هل يدرك أولئك معنى الموت؟
الأعين تدور بامتعاض عن المدينة التي تقبع وراءهم، الربوة تشرف على سهل والسهل أجرد أغبر-ألوان الموت-لا لون آخر للسهل كل شيء أغبر الناس. والتراب، والصخور، والشجر القليل المتناثر-العيون تتعود على الظلام لكن البرد يجمد الرؤيا، ولكنه لا يبلد الإحساس، كانوا سبعة وضابط كانوا نعم سبعة وضابط... ولكن هز الليل رأسه بهزء.
سبعة أمامه بلون الظلام والبرد يضحك باستهزاء وهو ينخر عظامهم التي لم تستطع ملابس الجيش القليلة أن تحمي اللحم الذي يغطي العظام. علب مبعثرة بعضها مليان والبعض الآخر فارغ وما داخل العلب يثير الغثيان بعد أن جمده البرد. كانوا يأكلون حتى لا يموتون جوعاً كانوا يعرفون تماماً أن الموت قادم لكن لا يريدون الموت جوعاً، ولذا كانوا يأكلون في زاوية الخيمة. نعم كانت لهم خيمة قديمة من بقايا ما تعطف به الصليب الأحمر ذات يوم ليوضع في مناطق دافئة تحمي المرضى من أشعة الشمس ولكن الذين في المدينة يفهمون الفرق بين خيمة وأخرى ولذا كانت الرياح قد مزقت الخيمة ولم يبق منها سوى نتف ترفعها الرياح لتذكر المجموعة بأنهم لا يزالون فوق الربوة، بجانب الخيمة كوم من الكدم تكبر كل يوم لأنهم لم يتعودا طعم الكدم الذي يشبه بقاياهم التي يتركونها في أي مكان. كانوا سبعة وضابط. الدفء الوحيد في الخيمة هو أنهم جميعاً معا انتقلت السيجارة من مكان إلى آخر، وضوءها الخافت تخفيه أيديهم لئلا يكتشف العدو مكانهم، ولكي تدفئ الشعلة أيديهم المتجمدة. كان الوقت نهاية ديسمبر وبعد دقائق سيحتفل العالم كله ما عداهم بقدوم عام جديد. أما السبعة والضابط فلم يكونوا يعرفون في أي يوم هم وماذا يعني عام جديد مضى عليهم منذ أن احتلوا هذه الربوة، وبقوافيها أسبوع وهم يهاجمون كل ليلة ولم ينهزموا فقدوا الكثير وعددهم سبعة وضابط برتبة ملازم ثان، ولكن هنا لا يمكن أن تجد فرقا بينهم فكلهم لم يعرف الحلاقة بعد، ولم يتعد أكبرهم السادسة عشرة الضابط نفسه كان بالأمس طالبا في الكلية، وهو الآن يقاتل منذ أن بدأ الحصار. المدفع أمامهم صغير في السن أيضاً. تسلموه قبل شهر وكان في صندوق. لم يمض على صنعه سوى سنين في مثل عمر أصغرهم ولذا فهم من جيل واحد، وكانوا جميعاً يحبون مدفعهم ويعتنون به وخاصة عندما يقهقه في وجه العدو يتمنى كل واحد أن يقهقه معه. لا قمر في السماء والليل بارد، والظلام أسود، وقلوبهم دافئة أما أيديهم فقد تجمدت على الأسلحة، تأخر العدو هذه الليلة كما تأخرت المدينة خلفهم من تزويدهم بالأغذية والمؤن وعيونهم تخترق الظلام وتمسح السهل الأغبر تحت الربوة سيسقط الجبل غداً بيد زملائهم وعندها لن يكون لمدفعهم فائدة عسكرية، وسيعودون إلى مواقع أخرى، أو إلى المدينة كان أصغرهم في الحادي عشرة- أسمه علي، هو من عتمة. انضم قبل عام وقاتل في عدة مواقع وكان يريد أن ينام. ليحلم بالبقر والغنم الذي تركهم وهرب. كان راعياً لكنه مع ذلك مثله مثل بقية زملائه السبعة رعاة من أبناء فلاحي عتمة وريمه وحراز وكان واحد منهم من صنعاء واسمه يحيى، كان لصا قبل أن ينضم (وكان يعرف كل سجون صنعاء. الرادع بقى به سنة، والقلعة تردد عليها مرات، وسجن الداخلية والمباحث الجنائية والمركز وكل السجون فقد كان لصاً.
منذ أن بلغ السابعة ومارس مهنته بجدارة حتى بلغ الثانية عشرة وقبل الحصار حمل البندقية: سرق مرة وهو يحمل البندقية وقال أنها سرقة شريفة-فقد سرق مسدس أحد العقداء عندما هجم العدو وهرب العقيد.. ارتمى في الخندق وبدأ يزحف بعيداً ورأى يحيى مسدس العقيد وبعد لحظات ورغم تناثر الدانات على الموقع كان المسدس قد اختفى-أما العقيد فقد حمدالله على نجاته عندما وصل إلى صنعاء-وبعد أيام كان في مهمة إلى الخارج. وبقى المسدس مع يحيى فترة ثم باعه ليشتري له ولبعض زملائه ملابس للشتاء القارس فوق الجبال. حتى الضابط قصته عادية سوى أنه أفضل من البقية لأنه يعرف القراءة والكتابة- درس حتى المتوسط. ولم يكن يقرأ سوى بعض الكتب الدينية-وبعض الجرائد-غير أنه في الفترة الأخيرة بدأ يعرف أفكاراً جديدة لم يكن يدري أنها موجودة، وكان أحياناً يقصها لجنوده وهذا ما جعلهم يعتبرونه منهم خاصة وأنه لم يهرب من أي معركة مثل بقية الضباط.
قال يحيى بصوت هامس لماذا تأخروا الليلة؟ وأجاب علي وصوته ناعس: ربما ناموا. تحرك الضابط نحوهم وقال: لدي إحساس بأنهم يدبرون شيئاً، تجمعوا في حلقة، وكانت عيونهم تخترق الظلام ولم يكن (البرد يعني شيئاً). تحدث الحرازي وقال. اسمعوا لا بد أنهم يريدوننا أن ننتظرهم بينما هم نيام، وعند الفجر يهجمون ونكون نحن في إرهاق. فنظر الضابط في ساعته وكانت في منتصف الليل أصدر أمراً بأن ينام النصف ساعتين وأن يبقى النصف في يقظة لم يكن علي يحتاج للأمر فقد كان يحلم بأمه تسقيه قهوة حارة أعادت لخده الحرارة ورسمت ظل ابتسامة فوق شفتيه.
استقبل العالم العام الجديد وفوق الربوة التي تبعد عشرين كيلو متر من صنعاء كان سبعة وضابط يخفيهم الظلام، ويحتويهم البرد، لا يعلمون بأن عاماً جديداً مر بجانبهم. هناك بالمدينة كانت بعض الأنوار. وكانت قوارير تثير الدفء وكؤوس ترفع. ولقد لاحظ أحدهم بضعة منازل أطفأت أنوارها الدقيقة ثم عادت من جديد للنور. يحي يدمدم بصوته الحنون أغنية اللصوص الأطفال التي تردد نحن في السجن. ويده على المدفع وعينه فوق السهل الأغبر. في أنفه حاسة لص وفي سمعه يقظة كلب الحراسة ومضت الساعة بعد الأخرى. وفجأة توقف غناؤه وتقدم يكلم الضابط وقال: أنهم قادمون رغم أن الكلمة قيلت همساً إلا أن الجميع تقافزوا.. النوم كان حلماً عابراً ومضى، وأخذ كل منهم مكانه. قال علي وهو يطرد النوم بعنف. لا أسمع شيئاً. أجاب يحيى: نعم لا أحد منكم يسمع ولكني أحس بهم.. السيارات تدفقت قبل قليل اعتقد أنهم على بعد بضع مئات الأمتار يتقدمون من عدة اتجاهات أنصتوا أنهم حفاة تماماً، لم يخنه حدسه مرة ولذا كان رادار المجموعة.
أصدر الضابط أمراً. لا تطلقوا الرصاص حتى يكونوا على بعد أقدام واستخدمنا عندها القنابل اليدوية ثم بعد ذلك أصلوهم بالرصاص. في يد كل منهم قنبلة أصبحت جزءاً من اليد الباردة، لكنها أصبحت حارة.
الدماء تثور في الأعماق وتنفجر والليل ينظر إلى الأرض تحته بغباء مرت عليه مئات السنين وهو يشاهد مناظر مختلفة لكن سبعة من الأطفال مع ضابط لم يحدث ذلك من قبل. وبدأ الانفجار يهز الليل بعنف مات الظلام وانتحر البرد وهو يشاهد النيران حوله تحرقه بعنف ولم يصدر من السبعة والضابط صوت بينما الصراخ يرتفع بعنف من الجانب الآخر. كانوا كثرة أكثر من مائتين رجل وكانوا يحيطون بالموقع-من كل جانب وفوجئوا بالقنابل تتطاير حولهم، ولعلع الرشاش، وانطلق المدفع. سقط واحد من السبعة فصمت ولم يطلق صوت ألم، حتى الطلقة وهي تخترق الجمجمة لم تصدر إلا صوتاً خجلا وهوت قنابل يدوية بينهم وكانت أكياس الرمل حولهم في الخندق تحمي البعض، ولكن الشظايا أصابت بعضهم  وكان الرصاص يتطاير من كل جانب حتى أولئك الذين كانوا عندها يحتلون الجبل قالوا أنهم شاهدوا نهارا في قلب الليل وسمعت أصداء المعركة حتى صنعاء نفسها:
كان بابا نويل يوزع هداياه في بقاع بعيدة، في (العالم) وقال طفل: أنه يريد بندقية لأن بندقتيه ذابت من الرصاص. وأهداه بابا نويل رشاش زميله القتيل. ويقال أن ذلك حدث عندما كان بابا نويل يمر فوق المعركة، لكنه كان حزيناً طوال تلك الليلة في كل بقاع الأرض وسأله أحد الأطفال عن سبب حزنه فلم يجب إلا بكلمات قليلة أن الأطفال في اليمن يشيبون مع الفجر. ولم يعرف الأطفال ماذا يعني بابا نويل. سقط الضابط أيضاً بعد ساعتين من القتال. وبقي مع إشعاع الفجر الأول اثنان علي العتمي ويحيى اللص. كان مدفع يحيى حاراً، وكان الرصاص قليلاً، فقال سأقتصد وكان علي قد جمع حوله بقايا القنابل. ألقي جزءاً ليحي وقالا سنقتصد وجمعت كل الرصاصات وكل الأسلحة. يحيى أخذ الجانب الجنوبي وعلي كان في الجانب الشمالي وكان العدو قد تراجع منذ قليل وقال قائدهم جبناء موقع كهذا تفقدون فيه كل هؤلاء الضحايا ولا تحتلونه: فقال أحدهم: نحتله كيف وشياطين الجميمة كلها تقاتل هناك ضدنا. فقال القائد (إما نحن وإما الربوة) عار أن نفقد قتلانا ولا نحتل الموقع. وتناثرت القنابل. وكانت هذه المرة قليلة ولكنها مركزة ولعلع الرصاص. ولم يعد الليل بارداً ولم يعد الظلام أسود. كان الشفق محمراً في الأفق. وقال أحد الأعداء أنه شاهد الشفق يبكي في قلب الشمس قبل أن تشرق، وكان البرد قد خجل من قسوته وحمل دثاره ومضى. كان حزين يبكى قسوته فالربوة وتحت خيمة لم يبق منها سوى أعمدتها. وتحت الأكياس كانوا (سبعة وضابط). الدماء بركة حمراء وكانت أيديهم على البنادق، والمدافع ولم تكن هناك ذخيرة. وغطى العدو وجهه وهو يشاهد الأطفال أمامه. فوق شفتي يحي حزن مؤلم لأنه لم يقاتل حتى ينهيهم. وفي شفتي علي ابتسامة لأن أمه كانت تسقيه كأس من لبن الغنم وأما الضابط فقد كان فاتحاً ذراعيه ينظر إلى السماء طالباً أن تحفظ أطفاله الذين هم في مثل عمره. تجمعوا حول المكان ولم يصدق أحد ما يراه. كانوا سبعة من الأطفال وضابط وقد شابوا عند الفجر ومن يومها لم يمر الشفق فوق بلادنا.

--------------------------------------------------------------------------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق